محمد علي بحري.. كنز الموسيقى العربية المنسي في وطنه المهمل في أوروبا (حوار)
محمد علي بحري.. كنز الموسيقى العربية المنسي في وطنه المهمل في أوروبا (حوار)
صياد، يطارد الفرح كفريسة في غابة الحياة، لا يمل من استدراج الونس بمشاركته صور أكلات سورية مع أصدقاء على صفحات العالم الأزرق "فسيبوك"، ينجح غالبًا في محاولاته، وليس أجمل من الصباحات لاقتراف ذلك.
محنة كبرى عاشها المنشد والملحن شيخ الموسيقى السورية، محمد علي بحري، سببتها الحرب هناك.. من تهدم بيته بقذيفة، وموت ابنته وزوجته، وهروبه حاملًا أمه الضريرة وابنتيه وما تبقى من روحه على مركب هجرة غير شرعية، إلى تركيا، ليعيش بها مرغمًا لسنوات، ومنها إلى ألمانيا.
محمد بحري، اسم لا يتردد كثيرًا برغم أنه من أهم رواد ومشايخ علم الموسيقى الشرقية، ومرجعها القوى، لم ينصفه العرب واكتملت معاناته في ألمانيا، حينما اضطر إلى العمل في مصنع لصناعة الأبواب، فاستبدلت يداه حمل العود بحمل المطارق الحديدية، وصاحبت أذناه أصوات التروس ونشر الخشب بدلًا من الألحان العذبة، يلتزم جسده المنهك بشروط عمل مجحفة تفرضها الرأسمالية هناك، وذلك بعد نفاد محاولاته لإيجاد عمل في تخصصه ومناسب لحالته النفسية والجسدية.
حياة لم تكن تناسب محمد علي بحري العصامي الذي عايش الفقر سنين طفولته، فهجرته المدارس، ليحمل على عاتقه تعليم نفسه كالعظيم "طه حسين"، ولا أصعب من تعلم أسس فن ومبادئه باحترافية دون مُعَلِم وبأقل الإمكانات، ليصبح بعدها رائدًا لعلم الموسيقى في حلب معقل الفن الشرقي.
رحلة قاسية يخوضها، وليس أصعب من وقوفك على حافة البحر تلقي النظرة الأخيرة على المدينة التي احتضنت أحلامك وأحزانك وجنونك وصخبك وطيشك ووجعك، المدينة التي كلما أتعبك المسير فيها آويت إلى موج على الناصية يشبهك ويهدهدك، تعود بعدها طفلًا مشاكسًا لا يمل من الركض والصخب.
تلتفت على المشهد كاملًا، ملوحا للأصحاب الذين مدوا أياديهم إليك وأنت في هاوية الحزن واليأس والشتات، وأولئك الذين سقطوا فتهشم شيء في الروح، فيما صقيع يعبر وجهك وأذنيك، تضع يدك اليمنى على قلبك، لتتأكد أنك "أنت أنت"، ولست أحدًا سواك، تمسح برفق متلمسًا صوت من انفلتوا من الحياة ذات رمشة جفن، وما عادوا سوى هنا، في هذا العضو المتعب، قلبك الصغير.
"جسور بوست"، حاورت العلامة، ليس فقط عرضًا لمعاناته ولا لمناقشته في الفن وأحوال أهله، ولكن أيضًا إيمانًا بضرورة توثيق السير الذاتية وتجارب العلماء الإنسانية والمهنية، خاصة إذا ما أظهرت لهم الحياة أنيابها.
بداية.. من هو محمد علي بحري، وكيف كانت النشأة؟
ولدت في حلب سنة 1972، بحي شعبي ولأسرة فقيرة جدًا، وقاسيت في طفولتي وشبابي كل صور الحرمان والشقاء بسبب سوء الحالة آنذاك، ولكني صمدت وكافحت وجاهدت في سبيل التعلم وبناء نفسي فكنت عصاميًا بذلك، ولم أنتسب إلى معاهد موسيقية ولا تلقيت دروسًا موسيقية من أحد ولم أتعلم عند أحد، بل بنيت نفسي بنفسي، اعتمادًا على قوة فطرتي وما أتلقفه من الكتب والموسيقيين القدماء، والفضل المطلق لله تعالى الواهب المانح.
أتممت تعليمي الابتدائي والإعدادي ولم أحصل على شهادة المرحلة الثانوية (البكالوريا) بسبب وفاة والدي واضطررت بعدها لمزاولة الإنشادية وتلاوة القرآن والغناء في السهرات لكسب لقمة عيشي وإعالة من معي من أهلي، وأذكر أن أول أجر تلقيته كان من تلاوة قرآنية في أحد التعازي وكان عمري لا يتجاوز الأربعة عشر عامًا.
وكتبت الشعر وأنا بعمر 15 سنة، ولحنت بهذا العمر أول موشح لي وقد نظمت كلماته وهو موشح "طف على الندمان يا أخ البدرِ"، من مقام ماهور العجم وإيقاع المصمودي.
ثم تابعت تعليمي الموسيقي من الكتب الموسيقية القديمة، ومن خلال تعمقي وتأملي أيام الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب، شيخ الملحنين القدماء وكان من المعمرين وعلى يديه أخذ علومهم عبده أفندي الحامولي ومحمد أفندي عثمان، وغالب الملحنين والمغنين آنذاك.
درست تاريخ الموسيقى القديم المتعلق ببلاد الشام، وخاصة حلب ودمشق، كذلك درست الموروث العثماني والتركي برمته وبجميع ما فيه من ألحان وملحنين ومطربين.. إلخ.
حتى الآن لي من الألحان 261 لحناً، 90% منها هو من قالب الموشحات، لكن فيها ما هو من قالب البشرف والسماعي والطقاطيق والابتهالات الدينية وموشحاتها والقدود والأغاني الطربية.
وجاءت في معظمها على مقامات موسيقية نادرة بلغت تقريبا 60 مقامًا، بالإضافة إلى تلحيني في الكثير منها على إيقاعات موسيقية شرقية منها ما هو نادر وبلغ عددها تقريبًا 70، وبداية من أكبر إيقاع موجود في الموسيقى الشرقية، وهو إيقاع الفتح وترقيمه عندنا 176 على 4 (من فئة زمن النوار) وناية بأصغر إيقاع.
ومنها طبعا الزنجير 120 نوار، والمؤلف من خمسة موازين إيقاعية، وإيقاع الجهار 128 نوار، وإيقاع الحاوي 124 نوار، والخفيف والثقيل التركي والمصري والمخمسات والشنابر بكل أنواعها.. إلخ.
إضافة إلى كتابتي كثيرا من الأبحاث الموسيقية التي تحدثت فيها بإسهاب عن كثير من واضيعها وبتحليل وعمق.
وهل كان الأمر سهلًا في ظل عدم انتسابك لأكاديمية تعليمية؟
طبعا كان هذا الأمر في غاية الصعوبة والمعاناة، لكني كنت ذا إرادة صلبة وعزم لا يلين، ونفس لا تعرف اليأس ولا تؤمن سوى بالنجاح والبلوغ، ومن جدَّ في قطع البحار بعزمهِ، غدا عزمه فوق البحار له جسرا.
وكنت مؤمنا بقول الشاعر، "لاستسهلنَّ الصعبَ أو أدرك المنى، فما انقادت الآمالُ إلّا لصابرِ"، كذلك قول ابن الشابي "ومن يتهيَّب صعودَ الجبالِ، يعش أبدَ الدهرِ بين الحُفر".
وأخذ التعليم مني لوحدي سنوات طويلة جدًا ابتدأتها بعمر 14 عاما حتى الآن.
مررت بمحنة لا تقل عن محنة بلادك، كيف تصفها وما تفاصيلها؟
نعم، مررت بمحن كثيرة جدًا في حياتي، وقاسيت كل شيء بما في ذلك حرماني في صباي وفتوتي وشبابي من الحب ومن عالم المرأة، أنا الآن عمري 50 سنة، عشت منها 40 بلا امرأة في حياتي، والعشرة الأخرى تعرفت فيها على امرأة حلبية كانت خير زوجة وصديقة وسيدة ومربية صالحة وإنسانة فاضلة، أنجبنا خلالها 3 بنات.
توفيت هي في الحرب مع الابنة الصغيرة وبقيت أنا والبنتان الأخريان، حيث قمت بتربيتهما وعانيت كل صنوف العذاب في سبيل ذلك، لقد ترك ذلك عليَّ وعلى خيالي وقلبي وفكري ومشاعري وأحاسيسي الكثير، ويكفي أنه لا يمر علي يوم حتى الآن دون أن أذكرها وأتذكرها، متحسرًا متألمًا على فقدها الذي مضى عليه 12 عامًا.
كيف حدث ذلك؟
في نهاية سنة 2011، سقطت علينا قذيفة أودت على الفور بزوجتي الصالحة، وابنتي الصغيرة وأصبت أنا والباقيتان ببعض الشظايا، واستلزم إجراء عملية جراحية لاستخراج شظايا من رأس الابنة الوسطى، والحمد لله على معافاتها.
متعكزًا على ألمك، حاملًا ابنتيك ووالدتك وفررت من سوريا إلى تركيا ومن ثم إلى ألمانيا.. كيف كانت الرحلة وما تفاصيلها؟
كانت ساعات مريرة قاتلة لن تبرح ذاكرتي ولن تفارق خيالي حتى أوسد الثرى، والدتي الضريرة الكبيرة لم تعد تقدر على السير، فاضطررت إلى حملها على ظهري، أقطع بها الحدود السورية إلى الأراضي التركية وفرارًا من الحرب والدمار والموت، وبقينا في تركيا مرغمين مدة 4 سنوات، أنا والبنتان والوالدة المسكينة التي توفيت هناك ودفناها في أرض لم تطأها قدماها يومًا.
ما عملك الحالي وكيف أتقنته؟ وما صعوباته؟
أعيش الآن في ألمانيا، بعد أن هاجرت فيها عبر البحر كغيري وعلى قارب الموت، وصار لي فيها 6 سنوات وأنا لم أعمل ذات يوم في مهنة صناعية أو حرفة ما في حلب، كما لم أجد لي عملًا هنا في ألمانيا يتناسب مع الموسيقى والفن العربي والشرقي الذي كرست له حياتي، ومنذ أسبوع وجدوا لي عملًا في شركة لصنع جميع الأبواب المعدنية الثقيلة، العمل شاق ومزعج ولا يناسبني، ولكنها الضرورة التي تلزمني بأي عمل حتى لو كان ضد رغباتي وقدرتي البدنية، فالعمل كله ماكينات ضخمة وحديد ولحام ومناظر مزعجة لأمثالي، وهواء فاسد يسبب أمراض السرطان في الصدر والربو، لكن الحياة صعبة هنا في المانيا، وبلا عمل لن تكون حياتك جيدة.
في المجمل العمل يمثل عبئا، فلا يتناسب مع جسدي المريض وبدني المثقل والذي بات يحمل بين جنباته روحا مريرة معذبة، خصوصًا أن العمل في المصنع يقوم بنظام ثلاث ورديات إلزاميات، منها وردية تبدأ من العاشرة ليلًا وحتى السادسة صباحًا والسهر قطعة من العذاب، فكيف به مع صحبة الحديد واللحام وأصوات هدير الآلات الضخمة الذي سيتسبب لاحقًا بصممي؟!
هل حاولت العمل في مجال الموسيقى؟
نعم، قدمت ألبومًا موسيقيًا سجلناه في استوديو برلين، تضمن أربعة ألحان جاءت على مقامات موسيقية نادرة وقد تعهدت مؤسسة ألمانية بدفع تكاليف التسجيل والمغنين والعازفين وأجوري كملحن.
بعد كل هذا العطاء الموسيقي، لماذا لا يعرفك الجمهور العربي وأنت العلامة؟
أستغفر الله، أنا طالب علم وفن وعاشق لهما من غير غاية ولا مصلحة.
الجمهور جاهل موسيقيا، ويتأثر بالإعلام والمؤثرات الخارجية والعادات والتقاليد هي من تتحكم بذوقه وعلى ذلك يبنون أحكامهم ويحبون ويكرهون.
قالوا لأبي تمام الشاعر: "لم لا تقول ما نفهم؟
فقال: ولم لا تفهمون ما أقول؟
بقناعتي ومبادئي، الجمهور لا يصلح حكمًا لنجاح فنان أو فشله، قد يصلح لأن يكون حكمًا في ما يتعلق بفنان يحكي مستوى فهم وعلمهم وإدراكهم وذوقهم، وقد تكون متردية متأخرة مبتذلة بسبب فشل الأجهزة الحكومية المسؤولة عن تنمية أذواق شعوبها.
قضيت عمري في الفن وقوالبه ومصطلحاته وأصنافه وأشكاله، ولدي تجاربي على قوة تأثير انفعالاته، ليس ذنبي أن آتي مسرحا أو أقدم ألحانا ومؤلفات أو في محفل جماهيري ما، لأجعل من يقيمني ويحكم لي بصلاحي الفني أو فشله موظفًا أو سائق تاكسي، أو نجاراً أو قصاباً أو طبيباً أو محامياً أو رجل دولة مسؤولاً… إلخ.
هؤلاء -مع احترامي لهم- كل واحد منهم خبير في مجاله أو مهنته أو اختصاصه، أنا خبير باختصاص ما أقدم، إذاً هم لن يفهموا أكثر مني بقوة وبدع وجمال ما سأعرضه عليهم.
لست خبازًا في مطعم الفن، أقصى مناه إرضاء الزبائن ونيل رضا الزوار (الجماهير)؛ بل هدفي نشر الفن السليم والجمال القويم والحال المستقيم، كما أني خسرت الكثيرين من أقراني الموسيقيين والفنانين بسبب عدم مجاملتي لأي إنسان وعلى حساب الفن، وهذا ما جعلني أعيش متقوقعا على نفسي.
يقال إنك تتحلى بفضيلة الزهد، أتحمل بين جانبيك روح صوفي؟
نعم، أنا متأثر بالصوفية في حياتي، وفي فترة شبابي قرأت معظم كتب الصوفية التي تجمع بين حال الحقيقة والشريعة دون الفصل بين أحدهما، فالإمام الجنيد وهو إمام الطائفتين الشريعة والحقيقة كان يقول: إذا رأيتم الرجل يتربع في الهواء أو يمشي على الماء فلا تتبعوه حتى تنظروا عمله على الشريعة، فإن وافقها فاتبعوه، وإن خالفها فاضربوا به عرض الحائط.
وهذا كلام جميل وهو مذهبي بالتصوف، والموسيقى الصوفية أخرجت أعمق الألحان، ولا ننسى الدادوات في الموسيقى العثمانية والمولوية وآثارهم التلحينية وتأليفهم الموسيقية العظيمة والمؤثرة والعميقة جدًا.
ولو سمعت مقابلات لكثير من الموسيقيين والفنانين القدماء وبالرغم من عملقتهم في الفن والموسيقى وما أبدعوه وأعطوه، ستجدهم في غاية الزهد والتواضع وإنكار حظوظ النفس، وخلافًا لفناني هذا الزمان الذين يصارعون صراع الوحوش من أجل الشهرة المزيفة، والألقاب العريضة وجني المال وبلوغ دنيا فانية وزائلة، رحم الله الأوائل فقد كانوا على علم واسع وعطاء كبير وضخم ومديد ومع ذلك فقد كانوا في غاية التواضع ونكران الذات.
لماذا هجر الجمهور فن الموشح، ولماذا لا نرى ملحنين يحاولون إحياء هذا الفن؟
فن الموشح يحتاج لفهمه وللذة تذوقه وللاستمتاع بمكنون جمالياته إلى ثقافة قوية في الكلمة والجملة اللحنية والإيقاع ولبلاغة النظم واللحن، ويحتاج من الملحن إلى مخزون كبير من علم المقامات الموسيقية والضروب والموازين الإيقاعية وإلى قوة تلحينية جبارة ليتمكن الملحن من تطويع معاني الألحان لمعاني صور النظم والكلام والرقص معهما على إيقاعات كثيرة متنوعة، منها الرشيق الخفيف ومنها الثقيل العويص، إضافة إلى إعمال الخيال، ومراعات الشعور والإحساس، والاتيان بجمل لحنية وموسيقية مبتكرة وخلّاقة.. وهذا غير متوفر حاليًا لا في الجمهور ولا في الملحنين.
كذلك معظم الملحنين هم سماسرة يربطون نجاحهم بما يطلبه الجمهور ويبتغيه، ويسخِّرون كل قدراتهم وتوجهاتهم لما يتطلع له الجمهور ومهما كان نوعية ما يطلبه الجمهور.
والجمهور بصورة عامة جاهل موسيقيًا وثقافيًا، وبالتالي لن يطلب إلا الإسفاف من الموسيقى والساذج السطحي الخفيف منها، لم يعد الجمهور من ضغط الحياة وسرعة إيقاعها يملك صبرا لسماع ألحان مطولة أو تحتاج لفهم ثاقب أو لإعمال عقل وخيال، بل هو يريد ألحاناً وموسيقى لا تحتاج إلى أي جهد منه لا في جملة موسيقية ولا في معاني شعر أو نظم.
وقد أدرك المطربون والموسيقيون والملحنون تلك الغايات والوقائع، فراعوها وتبنوها واشتغلوا عليها وهجروا نفائس الفن وقوالبه، كالموشحات والبشارف والسماعيات والأدوار، وأذكر أني تحاورت هاتفيًا ذات يوم مع المرحوم الفنان صباح فخري، عن الرجوع للألحان القديمة وإحيائها فقال لي بالحرف: "إذا بيطلع أستاذي الشيخ عمر البطش من قبره وبيلحن لي ما بغنيلوا، لأنو زمنو راح وولّى وانقرض، أنا إذا بسمع كلامك فبرجع لورا، أنا ما بدي أنحط بالمتحف.. أنا محافظ عالتراث وأغني الشيء القريب لفهم الناس وليس لما يتطلبه العلم الموسيقي".
جميعهم في النهاية تجار فن، يربطون الفن بالجمهور وليس بالعلم والفن نفسه، ونادرًا ما نجد فنانا يعشق الموسيقى والفن لذاتهم، وليس من أجل أحد أو رضا جمهور أو تحقيق شهرة وحيازة مكانة أو تحصل على أموال.
معظم الفنانين غيروا مبادئهم الموسيقية والذوقية والفنية، لتغير الزمن والموضة وما تحول عنه الناس.
وأنا لا أهاجم أحدا وإنما أبدي رأيي الخاص بي وبما أنا مقتنع به ولا ألزم أحدا بقناعاتي.
ماذا عن محاولات البعض إحداث ثورة فنية من خلال التغني ببعض الموروثات العربية القديمة؟
للأسف معظم المحاولات تلك جاءت مسخًا ومشوهة لأصل الألحان، ولو تركوها في مرقدها بدمها ولحمها وشحمها لكان أفضل، لأن موضوع إعادة أي عمل موروثي يحتاج إلى دراسة عميقة وتخطيط فني دقيق ومركز حتى لا نسيئ لذاك العمل، ولعبقه التاريخي ولروح ملحنه والزمن الذي عاش فيه، ولا يصح بحال إخراجه بثوب عصرنا وزماننا بحجة التطوير والتجديد، إضافة إلى أن معظم قائدي تلك الفرق الموسيقية هم من غير المتعمقين بالألحان التراثية ولم يحفظوها جيدًا ولم تدخل لحناياهم أصلا، فكيف سيتقنون فن إعادة إخراجها؟
لو سألت أحدهم كم موشحًا تحفظ، لقال لك عشرين أو ثلاثين موشحًا وأعرف كم سماعي وبضعة بشارف، وكل هذا ضعيف ومفلس ولا يكفي ليجعل الفنان متمكنًا ومؤهلا لإخراج الألحان التراثية بجمالها وزهوها.
على الأقل يجب أن يكون متقنًا وحافظًا لـ300 موشح، ومطلعًا على مئات السماعيات والبشارف والأدوار وباقي القوالب الكلاسيكية ومتأملا ومتعمقًا في دراستها والعيش في حناياها، مع معرفة الدروب الإيقاعية والمقامات الموسيقية، حينها ستتمكن من تناول أي عمل كلاسيكي وتقديمه بوجهه المطلوب دون تشويه أو أخطاء.
ما رأيك في لون الغناء المستحدث المسمى بـ"المهرجانات"؟
تشويه ومسخ وإفساد، ولو كنت في موقع مسؤولية لمنعتهم من إقامة تلك المهرجانات العابثة المفسدة والتي حَوت مختلف التناقضات، ومعظم لجانها لهم أغراض دنيوية ومصالح مادية من وراء إقامتها ممتطين صهوة الفن يجرون به نحو مبتغياتهم.
وماذا عن فرق الإنشاد العربية، وعلى رأسها السوري، وما أبرزها؟
معظم من اطلعت عليهم من فرق، بضاعتها العلمية مزجاة، وأغراضهم تجارية، وأداؤهم رخيص يتماشى مع جهل الجمهور وسذاجته، مثل فرقة الأخوة أبوشعر وغيرها مما يتماشى مع العوام وساهم في إفساد الذوق وتشويه عالم وفن الإنشاد الديني وروحه وقالبه المقدس النزيه للأسف.
يقال إنك واجهت حربًا شرسة بسبب مناهضتك "موضة" تلاوة القرآن بما يشبه النواح.. كيف ذلك؟
نعم، تصديت للحديث عنهم لكشف فسادهم وتلويثهم فن ودولة التلاوة المصرية، التي سادت العالم والتي تعب في تأسيسها أمثال المرحوم الشيخ محمد رفعت، والنابغة الشيخ مصطفى إسماعيل والمرحوم محمد صديق المنشاوي والمرحوم عبدالباسط عبدالصمد والشيخ محمود خليل الحصري.
وقام أتباع بعض القراء وأغلقوا لي حسابي على “فيسبوك”، وكان قد مضى على تأسيسي صفحتي أكثر من 10 سنوات، وكانت صفحتي ذاخرة بمختلف الأبحاث الموسيقية والكنوز الفنية والمقالات الأدبية والفكرية، فذهبت كلها ولم أكن محتفظا بنسخ منها، واحتسبته كله في سبيل الله والعلم والتنوير والدفاع عن التلاوة في مصر وعن هيبة وجلال كلام الله وكتابه العزيز.
كيف كنت ترى فتاوى تحريم الغناء والمغنيين؟
فتاوى غير محقة، وهي من اجتهادهم هم، وليس من حقيقة الدين، فالموسيقى الراقية والكلمات السامية، ليست بحرام، وحاشا لله أن يحرم كل ذلك الجمال والنعيم المباح، فالآلة الموسيقية هي استنساخ لآلة الحنجرة والصوت.
الحنجرة هي آلة ربانية موسيقية تخرج الأصوات والألحان، قام الإنسان بصنع شبيهها فأخرجت الأصوات نفسها، فلماذا هي هناك حلال وهي هنا حرام؟ والوظيفة واحدة.